زكريا الرجبي.. شاهد على نكبات القدس خلال 60 عاما

زكريا الرجبي.. شاهد على نكبات القدس خلال 60 عاما

المقدسي زكريا حسين الرجبي-الجزيرة نت

تزخر ذاكرة المقدسي زكريا حسين الرجبي بتفاصيل 60 عاما عاشها وعمل فيها بالبلدة القديمة منذ نعومة أظفاره، كان شاهدا خلالها على نكبات مدينة القدس وتغير أحوالها وأحوال سكانها، بدءا بالانتداب البريطاني، مرورا بالنكبة والوصاية الأردنية على القدس الشرقية، وانتهاء بسيطرة الاحتلال على المدينة كلها.

في عقبة السرايا داخل البلدة القديمة، ولد الرجبي عام ثورة البراق 1929 أيام الانتداب البريطاني، التي اندلعت احتجاجا على مسيرة ضخمة لليهود خرجت في "ذكرى خراب الهيكل" تطالب بحائط البراق وتحويله لمصلى يهودي.

وفي منزله الواقع في بيت حنينا شمال القدس، بدت علامات تعب السنوات التسعين واضحة على الرجبي وهو يستذكر طفولته، التي قضى جزءا منها في مدرسة العمرية والبكرية في أواخر ثلاثينيات القرن الماضي وبداية الأربعينيات في مدينة القدس.

عن تلك الفترة المليئة بالأحداث يقول "في إضراب الستة أشهر عام 1936 كان الوضع صعبا جدا، وعشنا كما عاش الناس فترة طويلة دون طعام كافٍ، وهو ما اضطر أبي لأخذنا لمدينة الخليل حتى انتهاء الإضراب".

عاد زكريا بعدها إلى القدس، وباشر العمل في البلدة القديمة لمساعدة عائلته، ولمّا يكن قد تجاوز الحادي عشر من العمر بعد.

بداية العمل

من حي مأمن الله غرب المدينة، بدأ عمله مساعدا في دكان للحلاقة، حيث تعلم بعض أساليب التطبيب الشعبية السائدة وقتذاك، وتنقل للعمل في مجال الحلاقة بين سوق خان الزيت وسوق الدباغة والعطارين، حتى حلت نكبة 1948 وتغير وجه المدينة.

عاشت مدينة القدس، كما يروي زكريا، أياما مزدهرة بعكس واقع اليوم، فمكانتها الدينية جعلتها مزارا لأعداد كبيرة من مسلمي ومسيحيي العالم، ومواسم النبي موسى (عليه السلام) استقطبت أعدادا كبيرة من سكان بلاد الشام على مدى العام، وكانت مسيرة الموسم تنطلق من المسجد الأقصى باتجاه مقام النبي موسى (عليه السلام).

"لم يكن هناك متسع لنملة"، هكذا يستذكر الرجبي حال البلدة القديمة قبل عام النكبة، قبل أن يتنهد ويعلق على حالها اليوم "اليوم والله البلد ماتت".

الوصاية الأردنية

وما أن وقعت نصف المدينة بيد الاحتلال وتولت المملكة الأردنية الوصاية على النصف الآخر، حتى تحولت العديد من المناطق في البلدة القديمة لمنطقة "حرام" يمنع على المقدسيين وصولها أو المرور منها. وهكذا دخلت مدينة القدس عهدا جديدا قسّم البلدة القديمة إلى منطقتين.

يقول الرجبي "حاولنا الاعتياد على وجود الأردن وخروج الاحتلال البريطاني، وفي بداية الخمسينيات تم استدعاؤنا للحرس الوطني الأردني، وبدأت بعد انتهاء تلك الفترة أخدم على سور القدس في منطقة باب العامود".

لم يدم عز البلدة القديمة في تلك السنوات، وتدهورت أحوال التجارة والسياحة، الأمر الذي اضطر العديد من التجار لإغلاق محالهم والخروج من البلدة القديمة بحثا عن أرزاقهم. "أقوى عامل فينا لم يكن يستطيع تحصيل أكثر من 20 قرشا في الشهر في وقت وصل فيه سعر رطل الطحين 33 قرشاً"، هكذا اختصر الرجبي تلك الفترة التي عاش فيها معظم سكان البلدة القديمة في فقر شديد حتى ما قبل عام 1967.

وقد كان للمتحدث نصيب من ذلك، فاضطر للتنقل بين مهن عدة حتى يستطيع إعالة أسرته نظرا لركود الوضع الاقتصادي، فعمل في مجال تصليح الأحذية في سوق العطارين، وسافر بعدها للعمل بسوريا، ثم عاد إلى القدس ليفتتح في عام 1954 أول دكان خاص بمستلزمات العرائس، لكنه اضطر لإغلاقه ومن ثم بيعه في منتصف الستينيات.

بحرقة يصف الرجبي هذه اللحظات "كانت لحظة صعبة جداً، اضطررت لبيع دكاني بسعر زهيد لصعوبة الوضع".

استمر الرجبي في السعي لإيجاد مصدر رزق له داخل البلدة القديمة رغم كل الظروف الصعبة، وفي عام 1967 أنشأ مصنعا للحقائب الجلدية السياحية بالشراكة مع أحد أصدقائه.

القدس تحت الاحتلال

ما أن وقعت القدس كلها تحت الاحتلال هذه المرة، وما أن انتهى القصف الإسرائيلي لتصبح المدينة بأكملها في قبضته، عاد الرجبي إلى مصنعه الكائن في حارة الشرف (حارة اليهود حاليا)، ليجد الاحتلال قد سيطر على المصنع بشكل كامل بعد أشهر قليلة من افتتاحه.

عاد من جديد ليفتتح مصنعا جديداً، ويتعلم مهنة صناعة الحقائب الجلدية مع طباعة صور سياحية عليها، ليكون أول مقدسي يدخل هذه المهنة إلى القدس بعد أن كان التجار يستوردون هذه الحقائب من سوريا ولبنان.

يقول الرجبي "تعلمت المهنة لوحدي، واتفقت مع رسام ليرسم لي بعض الأشكال التي تجذب الناس، وتمكنت من شراء بعض الآلات من إيطاليا وبدأت العمل عليها ليل نهار حتى بت أوزع هذه الحقائب على جميع تجار البلدة القديمة".

ازدهرت حالة البلدة القديمة بعد عام 1967، وبدأ السياح في زيارة المدينة من جديد، يتنهد زكريا الرجبي مع ابتسامة خفيفة "كل البلد أخذت الصنعة بعدها، ورغم تدهور الوضع الاقتصادي في البلدة القديمة استطعت الصمود في هذه المهنة منذ عام النكسة حتى عام 2000".

ويختم حديثه مع الجزيرة نت "العيش في القدس صعب على قدر جماله، عشنا أياما صعبة جداً لا أنسى منها حريق المسجد الأقصى حين هرع المقدسيون لإطفاء الحريق بسطول الماء الصغيرة، ولا مجزرة الأقصى التي استشهد فيها ابن خالي، ولا أيام الفقر الشديد التي كنا نعيش فيها على وجبة واحدة في اليوم".

يعيش اليوم الرجبي مع أولاده وأحفاده في منزله ببيت حنينا شمالي القدس بعد أن حفرت سنوات العمل الستين آثارها على ملامح وجهه ويديه، ولا يمل كلما زاره أحدهم من إخبارهم عن 60 عامًا قضاها من حياته بين أزقة البلدة القديمة شاهدا على ثلاث فترات مرت عليها.

المصدر/ الجزيرة نت

رابط مختصر : http://bit.ly/39ibqIg