في مؤتمر "تسمية الإبادة الجماعية: المسؤولية العالمية تجاه غزة"، ناقشت الجلسة الثالثة والأخيرة، التي حملت عنوان "التضامن الدولي: تحويل المناصرة إلى فعل"، كيفية ترجمة النشاط العالمي إلى تغيير ملموس لصالح الحقوق الفلسطينية. ترأست الجلسة الدكتورة ماندي تيرنر، كبيرة الباحثين في "Security in Context"، وشارك فيها نخبة من الخبراء والنشطاء لمناقشة آليات المساءلة القانونية، والمناصرة الإعلامية، والتعبئة الشعبية، والتدخلات على مستوى الدول.
قدمت الجلسة رؤى قوية من الدكتورة ناديا ناصر-نجاب، والسيدة غراتسيا كاريتشا، والمحامية ميرا نصير، والسيدة نوبريت كالرا، حيث أكدت أن التضامن ليس عملاً خيرياً، بل هو التزام فاعل بتفكيك نظام الفصل العنصري والإبادة الجماعية الإسرائيلي من خلال الوسائل القانونية والاقتصادية والسياسية.
ماندي تيرنر: ضرورة التضامن العالمي
افتتحت الدكتورة ماندي تيرنر الجلسة بالتأكيد على الدور التاريخي للنشاط الحقوقي في إنهاء الاستعمار والقمع الحكومي. وأشارت إلى أن كل انتصار رئيسي في مجال حقوق الإنسان، من إنهاء نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا إلى حركات مقاومة الشعوب الأصلية حول العالم، لم يتحقق إلا من خلال تضامن دولي مستمر.
ودعت الدكتورة تيرنر إلى تبني نهج متعدد المستويات في النشاط الحقوقي، يشمل الجهود الدبلوماسية مثل القضية التي رفعتها جنوب إفريقيا أمام محكمة العدل الدولية (ICJ)، والعمل القانوني الذي تقوم به منظمات حقوق الإنسان الدولية، إضافةً إلى التعبئة الجماهيرية على المستوى الشعبي.
وأكدت قائلة: "الفلسطينيون في الداخل بحاجة إلى تضامننا في الخارج. ليس صدقة، وليس دور المنقذ—بل تضامن. ويجب أن نضغط على حكوماتنا لإنهاء تواطئها."
كما حذرت من التصعيد المتزايد للقمع ضد المناصرة للقضية الفلسطينية، مشيرةً إلى الحملات الحكومية ضد النشطاء، والمراقبة المكثفة، والرقابة التي تمارسها الشركات بهدف إسكات حركات التضامن. ورغم هذه التحديات، شددت على أن حركة التضامن مع فلسطين تنمو يومياً، وقد صنفتها إسرائيل على أنها "تهديد وجودي أساسي".
الدكتورة ناديا ناصر-نجاب: دروس من حركات التضامن التاريخية
سلّطت الدكتورة ناديا ناصر-نجاب، المحاضرة البارزة في دراسات فلسطين والمُشاركة في إدارة المركز الأوروبي لدراسات فلسطين (ECPS) بجامعة إكستر، الضوء على التاريخ الطويل للمشاركة الدولية في النضال الفلسطيني، مشيرةً إلى أدواره المتناقضة بين الدعم والضرر. فمن وعد بلفور إلى السياسات الأمريكية الحديثة، غالبًا ما توافقت التدخلات الدولية مع الأهداف الصهيونية، مما ساهم في استمرار التهجير والاحتلال. ومع ذلك، شهد التاريخ أيضًا موجات قوية من التضامن، لا سيما خلال السبعينيات، حين حظيت منظمة التحرير الفلسطينية (PLO) بدعم الحركات المناهضة للاستعمار والإمبريالية. كما عززت الانتفاضة الأولى عام 1987 الوعي الدولي بالقضية الفلسطينية، حيث سلطت التغطية الإعلامية الضوء على القمع الإسرائيلي الوحشي للاحتجاجات السلمية.
انتقدت الدكتورة ناصر-نجاب اتفاقيات أوسلو وبرامج التواصل الشعبي (People-to-People) التي سعت إلى تطبيع الاحتلال الإسرائيلي تحت ستار التعايش. وأوضحت أن هذه المبادرات، التي تجاهلت الواقع الفلسطيني، فشلت في الاعتراف بتفتيت الأرض الفلسطينية والتوسع المستمر في المستوطنات غير الشرعية. ولهذا، رفضها المجتمع المدني الفلسطيني، مُصرًّا على أن التضامن يجب أن يكون قائمًا على الفعل، وأن يهدف إلى تفكيك منظومة القمع بدلاً من تعزيز أوهام المصالحة.
وأشادت بالدور الحاسم الذي لعبته حركات التضامن الدولي، وخاصة حركة التضامن الدولية (International Solidarity Movement)، في مقاومة العدوان الإسرائيلي، وتوثيق الانتهاكات، ومرافقة الفلسطينيين في مواجهة عنف المستوطنين. كما أبرزت دور وسائل التواصل الاجتماعي في إيصال الصوت الفلسطيني إلى العالم، وكشف جرائم الحرب، والتصدي لانحياز الإعلام الغربي. ورغم المحاولات الإسرائيلية المستمرة لإسكات النشطاء، يتزايد الدعم العالمي لحملات المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات (BDS).
وختمت كلمتها بالتأكيد على أن الفلسطينيين لا يزالون صامدين في نضالهم، مستندين إلى ما وصفه محمود درويش بـ"المرض العضال"—الأمل. وشددت على أن التضامن الدولي، عندما يكون متجذرًا في العدالة والعمل، يظل قوة أساسية في مواجهة نظام الفصل العنصري الإسرائيلي وتحقيق التحرر الفلسطيني.
غراسيا كاريتشا: تقرير منظمة العفو الدولية حول الإبادة الجماعية والتداعيات القانونية
أكدت السيدة غراسيا كاريتشا، نائبة المدير الإقليمي في منظمة العفو الدولية، على الضرورة الملحّة للتعامل مع الإبادة الجماعية المستمرة في غزة، معربةً عن شكرها للمنظمين على توفير مساحة لمناقشة التقرير الشامل الذي أعدّته المنظمة. وأوضحت أن هذا التحقيق، الذي جاء في 300 صفحة واعتمد على باحثين ميدانيين، يقدم أدلة دامغة لا تقبل الجدل على أن إسرائيل ارتكبت ولا تزال ترتكب إبادة جماعية.
وأظهرت نتائج منظمة العفو الدولية أن إسرائيل ارتكبت ثلاثة أفعال محظورة بموجب المادة الثانية من اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية، وهي: القتل الجماعي، وإلحاق ضرر جسدي ونفسي جسيم، وخلق ظروف معيشية غير مستدامة للفلسطينيين عمدًا. واستند التقرير إلى أكثر من 212 مقابلة، وتحليل صور الأقمار الصناعية، وتقييمات عسكرية جنائية، حيث وثّق التهجير القسري لـ 1.9 مليون شخص، وتدمير المنشآت الصحية، واستخدام التجويع كسلاح حرب.
أحد العناصر الأساسية في تقرير منظمة العفو الدولية هو تقييم النية الإبادية. فقد تم تحليل أكثر من 100 تصريح رسمي إسرائيلي، كان 22 منها تحريضًا مباشراً على الإبادة الجماعية. وأوضحت كاريتشا أن هذه التصريحات لم تكن مجرد خطاب معزول أو تصريحات فردية، بل تمت ترجمتها إلى سياسات عملية، حيث أظهرت الأدلة تدميرًا ممنهجًا للبنية التحتية المدنية والمستشفيات والجامعات. وأشارت إلى أن الجنود الإسرائيليين احتفلوا علنًا بأعمال التدمير، مما يعكس تجريدًا ممنهجًا للفلسطينيين من إنسانيتهم. كما أن الغياب التام للمساءلة داخل المؤسسات الإسرائيلية يزيد من تأكيد نية القضاء على الشعب الفلسطيني في غزة.
وشددت كاريتشا على أن وقف القصف وحده لا ينهي الإبادة الجماعية، مؤكدةً أن الحرمان الممنهج من الغذاء والمياه والرعاية الطبية والبنية التحتية يجب أن يُعكس فورًا. وأوضحت أن إسرائيل يجب أن ترفع الحصار، وتسمح بدخول المساعدات الإنسانية، وتفرج عن المعتقلين الفلسطينيين، بينما يجب تقديم المسؤولين عن هذه الجرائم إلى المحاكمة.
كما سلطت الضوء على مسؤولية الدول الثالثة بموجب اتفاقية الإبادة الجماعية، موضحةً أن الدول التي تقدم دعماً عسكرياً أو اقتصادياً أو دبلوماسياً لإسرائيل تُعد متواطئة في الجريمة، وعليها اتخاذ إجراءات فورية، بما في ذلك وقف مبيعات الأسلحة وفرض العقوبات. وأشارت إلى أن حملة #EndGazaGenocide التي أطلقتها منظمة العفو الدولية حشدت بالفعل أكثر من 450,000 تحرك عالميًا، مما يزيد من الضغط على الحكومات لاتخاذ موقف واضح.
وربطت كاريتشا الإبادة الجماعية في غزة بمنظومة الفصل العنصري الإسرائيلية الأوسع، موضحةً أن ما يحدث ليس حدثًا معزولًا، بل امتداد لسياسات طويلة الأمد من الفصل العنصري والتهجير القسري. وأكدت أن مواجهة الجرائم الحالية تتطلب تفكيك هذه البنى القمعية بالكامل، إذ أن أزمة غزة ليست مجرد تصعيد عسكري، بل جزء من نظام مستمر من القمع العرقي والتطهير العرقي.
وختمت كلمتها بالدعوة إلى المقاومة العالمية، مشددةً على أن الآليات القانونية وحدها لن تحقق العدالة دون ضغط شعبي مستمر ونشاط حقوقي دائم. وقالت: "النضال ضد الإبادة الجماعية لا يتعلق فقط بغزة، بل يتعلق بإنهاء الإفلات من العقاب، ومواجهة الفصل العنصري، وضمان احترام القانون الدولي. على العالم أن يتحرك الآن."
ميرا نصير: المساءلة القانونية عن جرائم الحرب والتواطؤ المؤسسي
تناولت المحامية ميرا نصير، المسؤول القانوني في المركز الدولي للعدالة من أجل الفلسطينيين في لندنICJP، الآليات القانونية المتاحة لمحاسبة إسرائيل على جرائمها، ومسؤولية الدول والمؤسسات والأفراد في منع التواطؤ. واستعرضت القضية الجارية حول الإبادة الجماعية أمام محكمة العدل الدولية (ICJ)، مسلطةً الضوء على التدابير المؤقتة التي فرضتها المحكمة والتي تُلزم إسرائيل وحلفاءها قانونياً. وأكدت أن هذه الأحكام ليست مجرد رمزية، بل لها تداعيات ملموسة على الحكومات والشركات والمؤسسات التي تواصل دعم الجرائم الإسرائيلية، إذ تضع جميع الدول أمام مسؤولياتها القانونية، محذّرةً من أن التواطؤ مع انتهاكات إسرائيل يحمل عواقب قانونية.
كما تطرّقت إلى الرأي الاستشاري التاريخي الذي أصدرته محكمة العدل الدولية في يوليو 2024، والذي أكد أن احتلال إسرائيل للأراضي الفلسطينية غير قانوني ويجب أن ينتهي فورًا. وشددت المحكمة على أن المستوطنات الإسرائيلية، والتهجير القسري، وسياسات الفصل العنصري، كلها انتهاكات للقانون الدولي. وأوضحت نصير أن هذا الحكم يمثل أداة قانونية قوية يمكن استخدامها في الحملات الشعبية والحقوقية للضغط على الحكومات لإنهاء دعمها الاقتصادي والعسكري لإسرائيل.
ثم تناولت دور الإجراءات القانونية المحلية في دول مثل المملكة المتحدة، حيث توجد قوانين تجرّم التواطؤ في جرائم الحرب والإبادة الجماعية، لكنها نادرًا ما تُطبَّق. وأشارت إلى أن المحامين والناشطين يعملون على دفع السلطات القضائية إلى التحقيق في الأفراد والمنظمات المتورطة في دعم جرائم الحرب الإسرائيلية. كما أشادت بالجهود المبذولة للطعن في قانونية صادرات الأسلحة، وكشف تورط الشركات في تدمير حياة الفلسطينيين وبنيتهم التحتية.
وأوضحت أن المساءلة القانونية هي ركيزة أساسية في المقاومة، لكنها لا تكفي وحدها، مؤكدةً أن "القانون وحده لا يحقق العدالة؛ بل يجب أن يُدمج مع الحراك الشعبي، والضغط العام، والتعبئة الجماهيرية". وأضافت أن إسرائيل تمارس جرائمها دون رادع بسبب الغطاء السياسي الذي توفره لها الدول الغربية، مشددةً على أن الإطار القانوني لمحاسبة المجرمين موجود بالفعل، لكن تطبيقه يتطلب ضغطًا قانونيًا وشعبيًا مستمرًا لإجبار الحكومات على التحرك.
واختتمت كلمتها بالتأكيد على أن العدالة لفلسطين لن تأتي فقط من المحاكم الدولية، مشيرةً إلى أن الإجراءات القانونية تُعد أداة مهمة، لكنها ليست كافية لتحقيق المحاسبة الحقيقية. ودعت إلى مواصلة التصدي للإفلات من العقاب على جميع المستويات—سواء عبر المحاكم، أو الضغوط الاقتصادية، أو الحراك المباشر. وختمت برسالة واضحة: "النضال ضد الجرائم الصهيونية يجب أن يظل مستمرًا ودون مساومة حتى تتحقق الحقوق الفلسطينية بالكامل."
نوبريت كالرا: تفكيك تطبيع الاستعمار الإمبريالي
قدّمت السيدة نوبريت كالرا، منتجة المحتوى الرقمي في Code Pink، منظورًا من قلب الحراك الشعبي، مؤكدةً أن التضامن يجب أن يكون القوة الدافعة في مواجهة الصهيونية والإمبريالية. وسلّطت الضوء على تواطؤ النخب السياسية الغربية، لا سيما في المملكة المتحدة والولايات المتحدة، في تطبيع عنف إسرائيل، في الوقت الذي تقمع فيه الأصوات الفلسطينية. وأشارت إلى ازدواجية المعايير السياسية، حيث يعبر القادة الغربيون عن استنكارهم لخسائر الإسرائيليين، بينما يلتزمون الصمت إزاء عشرات الآلاف من الفلسطينيين الذين قتلوا. واستشهدت بحادثة الرقابة على فيلم وثائقي حول الأطفال الفلسطينيين كمثال على حملة أوسع لمحو الرواية الفلسطينية من الخطاب العام.
وشدّدت كالرا على أن النضال من أجل فلسطين لا ينفصل عن النضال ضد الاستعمار والرأسمالية، داعيةً إلى تفكيك حالة "العمل كالمعتاد"، وحثّت النشطاء على رفض تطبيع المؤسسات الصهيونية في جميع القطاعات، من الأكاديميا إلى الإعلام والتجارة. وأشادت بفعالية العمل المباشر، مشيرةً إلى كيف أن النقابات العمالية والحركات الشعبية نجحت في تعطيل شحنات الأسلحة، وإغلاق مصانع السلاح، وعرقلة الفعاليات الصهيونية. وأكدت أن هذه الأعمال النضالية تكشف تواطؤ الحكومات الغربية والشركات، وتؤكد أن المقاومة الجماعية يمكن أن تجعل استمرار المشروع الصهيوني مستحيلاً.
وأشارت إلى أن وسائل التواصل الاجتماعي لعبت دورًا محوريًا في كسر الدعاية الصهيونية. ووصفت المجازر في غزة بأنها "أول إبادة جماعية تُبث مباشرةً من قبل ضحاياها"، مما أتاح للعالم رؤية الفظائع في الوقت الفعلي. وأكدت أن ذلك ساهم في تصاعد الدعم العالمي لفلسطين، خاصة بين الشباب، الذين باتوا أكثر وعيًا بالطبيعة الاستعمارية للعنف الإسرائيلي. لكنها حذّرت من أن الحكومات والشركات تستثمر ملايين الدولارات في حملات التضليل، داعيةً إلى اليقظة المستمرة في فضح السرديات الصهيونية والتصدي لها.
واختتمت حديثها بالتأكيد على الطبيعة العالمية للنضال الفلسطيني، مشددةً على الروابط بين حركات مناهضة الاستعمار حول العالم. وذكّرت بأن تحرير فلسطين هو جزء من النضال الأوسع ضد العنصرية والإمبريالية والاستغلال الرأسمالي. ودعت الناشطين في الشمال العالمي إلى إدراك دورهم، ليس كمنقذين، بل كجزء من حركة تتطلب تضامنًا ثابتًا، مبدئيًا، وفعّالًا في دعم المقاومة الفلسطينية.
نداء موحد للتحرك
أكدت الجلسة الختامية بلا أدنى شك أن حركة التضامن مع فلسطين تمثل تهديدًا وجوديًا للصهيونية والإمبريالية الغربية. ومن المواجهة القانونية إلى الاحتجاجات في الشوارع، ومن المقاطعة الاقتصادية إلى النضال الإعلامي، حدد المتحدثون استراتيجية واضحة لتفكيك نظام الفصل العنصري الإسرائيلي.
ومع اختتام الجلسة، بقيت الرسالة واضحة: "يجب ألا نفقد وحدتنا. فلسطين ستكون حرة—لكن فقط إذا ناضلنا من أجلها."
22-2-2025