لندن – نظم مركز العودة الفلسطيني، ومقره العاصمة البريطانية لندن، ندوة إلكترونية موسعة بعنوان "من يستفيد مادياً من الإبادة الجماعية؟"، ناقشت أبعاد التواطؤ الدولي، الحكومي والخاص، في الإبادة التي يتعرض لها قطاع غزة منذ أكتوبر/تشرين الأول 2023، وركزت على دور الشركات متعددة الجنسيات في تسهيل الجرائم وتحقيق الأرباح منها، بما يخالف القوانين والاتفاقيات الدولية.
أدارت اللقاء الدكتورة صوفيا هوفينغر، الحاصلة على دكتوراه في الأنثروبولوجيا الاجتماعية من جامعة إدنبرة، والمتخصصة في النشاط القانوني والتضامن مع فلسطين وسياسات حركة المقاطعة في ألمانيا. وأوضحت في كلمتها الافتتاحية أن الاحتلال الإسرائيلي، بدعم من حكومات غربية وشركات كبرى، حوّل غزة إلى منطقة غير قابلة للحياة، وأن هذه الإبادة التي تجاوزت ستمئة يوم أسفرت عن استشهاد أكثر من ستين ألف فلسطيني، وسط صمت دولي وتواطؤ اقتصادي مكشوف. وأشارت إلى أن النقاش في هذه الندوة سيتناول تقاطعات القانون والسياسة والنشاط الميداني، لفضح هذه الشبكات المعقدة من التربح والتواطؤ.
مايكل لينك: الشركات جزء من بنية الإبادة وتجنب كلمة "إبادة" يحمي الجناة
استهل النقاش البروفيسور مايكل لينك، أستاذ القانون المشارك في كلية الحقوق بجامعة ويسترن في لندن – أونتاريو، والمقرر الخاص السابق للأمم المتحدة لحقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ عام 1967. عرض لينك مضمون التقرير الأخير للمقررة الخاصة الحالية فرانشيسكا ألبانيزي، المعنون "من اقتصاد الاحتلال إلى اقتصاد الإبادة". وأوضح أن التقرير يوثق، بالأدلة والبيانات، الدور المحوري للشركات الدولية، خصوصًا في دول الشمال العالمي، في دعم المجمع العسكري–الصناعي الإسرائيلي الذي يغذي الاحتلال في الضفة الغربية ويقود الإبادة في غزة.
لفت لينك إلى أن ألبانيزي وصفت في تقاريرها الثلاثة للأمم المتحدة منذ بدء العدوان ما يحدث في غزة بأنه إبادة جماعية، مستندةً إلى اتفاقية منع جريمة الإبادة لعام 1948، وربطت بين الوقائع الميدانية والجرائم الموثقة وبين المعايير القانونية الدولية. وأكد أن هذه الخلاصات حظيت بدعم من منظمات حقوقية كبرى مثل منظمة العفو الدولية وأطباء بلا حدود، ومن شخصيات بارزة على الصعيد الدولي.
وأضاف لينك بُعدًا سياسيًا وتاريخيًا من خلال سرد واقعة أنطوني ليك، مستشار الأمن القومي للرئيس الأمريكي بيل كلينتون، الذي شهد في 1994 نقاشات داخل الإدارة الأمريكية حول ما إذا كان ينبغي وصف ما جرى في رواندا بـ"الإبادة الجماعية". وأوضح أن التردد في استخدام هذا المصطلح كان خوفًا من الالتزام القانوني والأخلاقي بالتحرك، وهو ما يتكرر اليوم مع غزة، حيث تتجنب دول الشمال العالمي إطلاق هذه التسمية لذات السبب.
شدد لينك على أن اتفاقية 1948 لم تُنشأ لتكون أداة للمؤرخين بعد عقود، بل لوقف الإبادة فور وقوعها. وأوضح أن التقرير الأخير لألبانيزي لا يكتفي بالتشخيص، بل يفتح الباب للمساءلة من خلال الجمع بين القانون "الصلب" المتمثل في المعاهدات والاتفاقيات الملزمة مثل اتفاقيات جنيف ونظام روما الأساسي، والقانون "الناعم" المتمثل في المبادئ التوجيهية للأمم المتحدة بشأن الأعمال التجارية وحقوق الإنسان، مع انتقاد استخدام الشركات لهذه المبادئ كغطاء دعائي دون التزام فعلي.
كما تطرق إلى مبدأ الولاية القضائية العالمية الذي يتيح، في نحو 125 دولة، محاكمة مرتكبي الجرائم الدولية أمام محاكم محلية، ما يفتح المجال لملاحقة الشركات والأفراد المتورطين في دعم جرائم الاحتلال، داعيًا إلى بناء حملات قانونية وشعبية متكاملة لكسر الروابط بين رأس المال الغربي وآلة الإبادة الإسرائيلية.
منظمة حظر الطاقة لأجل فلسطين: الطاقة أداة استعمارية وحظرها ضرورة لمواجهة الإبادة
تحدثت كيميا، وهي ناشطة في منظمة "حظر الطاقة من أجل فلسطين"، وهي منظمة مناهضة للإمبريالية مقرها بريطانيا تستجيب لنداء النقابات الفلسطينية لوقف تدفق الطاقة إلى إسرائيل. شرحت كيف أن السيطرة على موارد الطاقة شكلت ركيزة للاستعمار في المنطقة منذ الانتداب البريطاني، وكيف أسهمت في تمكين المشروع الصهيوني من بناء بنية تحتية كهربائية لخدمة المستوطنات على الأراضي المحتلة.
أوضحت أن إسرائيل تعتمد اليوم على استيراد النفط والغاز والفحم لتشغيل بنيتها العسكرية، فيما تحرم الفلسطينيين في غزة من الوقود عبر حصار خانق يزيد من معاناتهم الإنسانية. وقدمت مثالاً على تورط شركة بريتيش بتروليوم في هذه المنظومة، حيث تملك الشركة حصة رئيسية في خط أنابيب باكو–تبليسي–جيهان الذي ينقل النفط الأذربيجاني إلى ميناء جيهان التركي، ليُشحن بعد ذلك إلى ميناء عسقلان، ويكرر إلى وقود للطائرات الحربية التي تقصف غزة.
كشفت كيميا أن هذا الخط وفر نحو 28% من واردات إسرائيل النفطية في العام الأول من العدوان، وأن الشركة حصلت في مارس 2025 على تراخيص للتنقيب عن الغاز بالشراكة مع شركات إسرائيلية، وهو ما يشرعن الاحتلال ويدعمه اقتصاديًا. وأضافت أن BP زودت أيضًا قواعد سلاح الجو الملكي البريطاني بالوقود، بما فيها قاعدة RAF Akrotiri التي تنفذ طائراتها مهام مراقبة فوق غزة لصالح الجيش الإسرائيلي.
وأشارت إلى أن وثائق رسمية كشفت أن المتحف البريطاني استضاف حفلًا سريًا للسفارة الإسرائيلية خلال العدوان، بحضور شخصيات سياسية وإعلامية داعمة لإسرائيل، ما يعكس تشابك المصالح بين BP، الدولة البريطانية، والمؤسسات الثقافية.
كما أوضحت أن تركيا، رغم إعلانها فرض حظر على تصدير النفط لإسرائيل، واصلت شحن النفط نفسه عبر خط باكو–تبليسي–جيهان، وأن منظمتهم استخدمت تقنية تتبع بالأقمار الصناعية لإثبات ذلك، ما أدى إلى كشف رسمي لهذه المخالفات. واعتبرت أن فرض حظر شعبي على الطاقة المتجهة إلى إسرائيل خطوة أساسية لحرمان آلة الحرب من الوقود الذي تعتمد عليه.
حركة الشباب الفلسطيني: اللوجستيات عصب تسليح الاحتلال وحملتنا ضد ميرسك
قدمت إيناس، من حركة الشباب الفلسطيني، عرضًا لحملة منظمتها ضد شركة الشحن الدنماركية العملاقة ميرسك. وأوضحت أن ميرسك تشكل حلقة مركزية في سلسلة توريد مكونات الأسلحة إلى مصانع أمريكية، حيث يجري تجميعها قبل شحنها إلى إسرائيل، بما في ذلك أجزاء رئيسية لمقاتلات F-35 التي تُستخدم بكثافة في قصف غزة.
بينت أن اللوجستيات ليست مجرد خدمة نقل، بل هي عنصر أساسي في عملية إنتاج السلاح نفسه، لأن المكونات تُصنع في دول متعددة وتُنقل إلى مراكز التجميع عبر شركات شحن مثل ميرسك. وكشفت أن الشركة مسؤولة وحدها عن نقل أجنحة كل مقاتلات F-35 الإسرائيلية منذ 2022، إضافة إلى مكونات أساسية لتشغيل الطائرات مثل أنظمة الملاحة والاتصال وتخزين الوقود.
أوضحت أن تحقيقات الحركة وثقت نقل ميرسك مئات آلاف الأطنان من المعدات العسكرية إلى إسرائيل خلال عام واحد، بمعدل سفينة أسبوعيًا من ميناء نيوجيرسي. واستعرضت نجاحات الحملة، ومنها دفع ميرسك لقطع علاقاتها مع شركات مرتبطة بالمستوطنات ووقف الشحنات إليها، وإجبار الحكومة الإسبانية على رفض رسو سفن ميرسك المحملة بالسلاح، مما اضطر الشركة لتحويل مسارها إلى المغرب، حيث واجهت احتجاجات شعبية وامتناع بعض عمال الموانئ عن تحميل الشحنات.
وأكدت أن هذه الأمثلة تبرز ما يمكن تسميته "حظر أسلحة شعبي" يُفرض من القاعدة، ويعتمد على التنسيق العابر للحدود، ويجعل استمرار الشركة في شحن الأسلحة أكثر كلفة من وقفها.
المركز الأوروبي للدعم القانوني: المساءلة القانونية ممكنة رغم التحديات السياسية
اختتمت ياسمين، المسؤولة القانونية في المركز الأوروبي للدعم القانوني، المداخلات بالحديث عن الأطر القانونية لملاحقة الشركات والأفراد المتورطين في نقل الأسلحة إلى إسرائيل من أوروبا. أوضحت أن سلاسل الإمداد تشمل شركات شحن ووكلاء شحن وموانئ ومؤسسات تمويل وتأمين، ما يتيح مساحات واسعة للتحرك في أكثر من ولاية قضائية.
شرحت أن القوانين في دول مثل فرنسا وألمانيا وبلجيكا تتيح ملاحقة مرتكبي الجرائم الدولية استنادًا إلى مبدأ الولاية القضائية العالمية، لكنها حذرت من العقبات السياسية التي قد تدفع النيابات العامة إلى التذرع بعدم كفاية الأدلة، رغم وجود الأسس القانونية.
أوضحت أن ربط الشحنة المحددة بالهجوم المحدد على الضحية المعينة يمثل أصعب التحديات القانونية، ويحتاج إلى تتبع أرقام تسلسلية، وسجلات جمارك، وصور أقمار صناعية، وأن حتى إذا فشل الادعاء في تهمة جرائم الحرب المباشرة، يمكن التوجه نحو تهم بديلة مثل المشاركة في تجارة أسلحة غير مشروعة أو المساهمة في القتل غير المشروع.
وقدمت مثالاً على نجاح التنسيق بين الجهد القانوني والنشاط الميداني في قضية سفينة "كاثرين"، التي كانت تحمل متفجرات إلى إسرائيل، وتم منعها من الرسو في عدة موانئ أوروبية بفضل الضغط القانوني والإعلامي المتزامن. وأكدت أن الهدف هو جعل كل شحنة سلاح إلى إسرائيل موضع مساءلة علنية وقانونية، وتكرار هذه النماذج على نطاق أوسع حتى تصبح كل رحلة وكل ميناء تحت رقابة وحصار قانوني وشعبي.
توصيات وخطة عمل مشتركة
خلص المشاركون إلى أن مواجهة شبكة التواطؤ الدولي مع الاحتلال تتطلب عملاً متكاملًا يجمع بين التحرك القانوني، والحملات الشعبية والإعلامية، وبناء تحالفات عابرة للحدود. وأكدوا أن استهداف الشركات الكبرى، سواء في قطاع الطاقة أو اللوجستيات أو الصناعات العسكرية، يجب أن يكون جزءًا من استراتيجية أوسع لعزل إسرائيل اقتصاديًا وسياسيًا، وربط ذلك بمطالب محلية في الدول الغربية، مثل العدالة المناخية والاقتصادية.
كما شددوا على أن النضال لا ينتهي بوقف إطلاق النار، بل يمتد إلى ضمان إعادة إعمار غزة على أسس عادلة، وضمان عدم تكرار الجرائم من خلال آليات مساءلة فعالة. واتفقوا على أن الضغط الشعبي المنظم هو العامل الحاسم في تغيير سياسات الشركات والحكومات، وأن "الحظر الشعبي" على السلاح والطاقة يمثل أداة مركزية في هذا المسار.
شاهد الندوة