في ندوة مركز العودة بالأمم المتحدة: خبراء يقدمون أدلة على "هندسة المجاعة" في غزة ويضعون خارطة طريق لإنهاء الإفلات من العقاب

في ندوة مركز العودة بالأمم المتحدة: خبراء يقدمون أدلة على

جنيف، سويسرا –  على هامش الدورة الستين لمجلس حقوق الإنسان، نظم مركز العودة الفلسطيني ندوة بعنوان "إنهاء الإبادة الجماعية في غزة". قدمت الندوة تحليلاً قانونياً وإنسانياً شاملاً، كشف عن استراتيجيات ممنهجة لهندسة المجاعة وتدمير مقومات الحياة، وقدم رؤى حول آليات المساءلة الدولية، مؤكداً أن ما يحدث في غزة ليس مجرد حرب، بل هو مشروع إبادة جماعية متكامل الأركان يتطلب تحركاً دولياً عاجلاً وحاسماً.

أدارت الحوار السيدة أستريد بوشناكيان من مركز جنيف الدولي للعدالة، التي أكدت في كلمتها الافتتاحية أن توصيف ما يجري في غزة بالإبادة الجماعية لم يعد يقتصر على المنظمات غير الحكومية، بل تبنته هيئات دولية رسمية كلجنة التحقيق الدولية المستقلة التابعة للأمم المتحدة، مما يضع مسؤولية قانونية مباشرة على عاتق المجتمع الدولي.

 

الهندسة الممنهجة للمجاعة: كشف "تجربة التجويع" الإسرائيلية

في مداخلة مهمة ومدعومة بالأدلة، قدمت الدكتورة جولي بيلود، الأستاذة المشاركة في المعهد العالي بجنيف، تحليلاً صادماً لكيفية استخدام إسرائيل للتجويع كاستراتيجية عسكرية متعمدة وجزء من مشروع إبادة جماعية في غزة. استهلت حديثها بالإشارة إلى أن لجنة مراجعة المجاعة (FRC) قد أكدت رسمياً في أغسطس 2025 وقوع المجاعة في غزة، وهي نتيجة وصفتها منظمات حقوقية كبرى بأنها "من صنع الإنسان" وهدفها التهجير القسري للفلسطينيين وتدمير نسيجهم الاجتماعي.

وأوضحت الدكتورة بيلود أن سياسة التجويع هذه، رغم نفي المسؤولين الإسرائيليين لها رسمياً، يتم تبنيها علناً من قبل وزراء بارزين في الحكومة الإسرائيلية، مستشهدة بتصريح وزير المالية بتسلئيل سموتريتش بأن "تجويع سكان غزة حتى الموت سيكون عادلاً وأخلاقياً"، ووزير الأمن القومي إيتمار بن غفير الذي طالب بألا يحصل "العدو" على أي طعام أو كهرباء.

وكشفت عن نمط وصفتْه بـ**"تجربة التجويع" (Starvation Experiment)**، حيث لا يتم قطع المساعدات بالكامل، بل "تعديل تدفقها بما يكفي لتجنب إعلان المجاعة رسمياً". ويتم ذلك عبر دورات متكررة من "الانخفاضات الحادة في إمدادات الغذاء أثناء العمليات العسكرية المكثفة، تليها زيادات مؤقتة كلما تصاعد الضغط الدولي"، وهي زيادات وصفتها بأنها "قصيرة الأجل وغير كافية على الإطلاق".

وأكدت أن هذه السياسة ليست جديدة، بل تعود إلى ما قبل أكتوبر 2023، مستشهدة بمقولة شهيرة لمستشار رئيس الوزراء الإسرائيلي عام 2006: "الفكرة هي وضع الفلسطينيين على حمية، ولكن ليس جعلهم يموتون من الجوع"، وهي سياسة تم تطبيقها عبر حساب السعرات الحرارية المسموح بدخولها إلى القطاع.

واستعرضت الدكتورة بيلود أبعاد التدمير المنهجي لمصادر الحياة في غزة، مقدمة أرقاماً مروعة، بما في ذلك: القضاء على ما يقرب من 80% من الأراضي الزراعية. تدمير 71% من الدفيئات الزراعية و83% من آبار المياه الزراعية. تضرر أو تدمير 89% من البنية التحتية للمياه والصرف الصحي، مما ترك أكثر من 90% من الأسر تعاني من انعدام الأمن المائي. وتوثيق أكثر من 322 هجوماً على المساعدات الإنسانية والعاملين فيها.

والأخطر من ذلك، كما شرحت، هو تفكيك إسرائيل لنظام المساعدات المدني للأونروا، واستبداله بنظام عسكري هو "مؤسسة غزة الإنسانية" (GHF). ووصفت هذا النظام بأنه "قاتل بطبيعته"، حيث استبدل حوالي 400 موقع توزيع بـ 4 "مواقع ضخمة" فقط، تقع جميعها في مناطق قتال نشطة، مما يجبر العائلات على النزوح إلى مناطق خطرة. ويتم إدخال الناس عبر ممرات ضيقة شبيهة بـ"حظائر الماشية"، مع استخدام الذخيرة الحية لتفريق الحشود، مما أدى لمقتل المئات.

وخلصت الدكتورة بيلود إلى أن هذا النموذج العسكري للمساعدات يعتبر "إبادة جماعية" وفقاً لاتفاقية الإبادة الجماعية، لأنه "يقتل الفلسطينيين ويدمر المجموعة ككل من خلال نزع الإنسانية الجماعي، وتفكيك النسيج الاجتماعي، وفصل المجموعة عن أرضها"، مما يسبب "موتاً اجتماعياً" يضاف إلى الموت البيولوجي. واختتمت بمطالب واضحة، داعية الدول الأعضاء إلى تفعيل قرار "الاتحاد من أجل السلام"، وفتح جميع المعابر، والتعليق الفوري لآليات المساعدات العسكرية، وتوفير حماية دولية لقوافل المساعدات، وفرض وقف فوري ودائم لإطلاق النار.

 

تشريح الإبادة: الأنماط الخمسة لتدمير شعب وخارطة طريق للمساءلة الدولية

من جانبها، قدمت الدكتورة نجمة علي، الزميلة في جمعية دراسات الشرق الأوسط، تحليلاً هيكلياً لما وصفته بأنه "مشروع إبادة جماعية متعمد" يتجاوز مجرد وقف إطلاق النار. وأوضحت أن ما يحدث في غزة ليس مجرد رد فعل، بل هو نمط من التدمير والحصار المستمر لعقود وصل إلى "شدة إبادة جماعية". وقامت بتشريح هذا المشروع من خلال تحديد خمسة أنماط متداخلة وممنهجة:

  • محو الحياة المدنية: وأكدت أن هذا النمط يشمل القتل المتعمد للمدنيين، حيث أن أكثر من 50% من الضحايا هم من النساء والأطفال وكبار السن. وقدمت أرقاماً كارثية عن تدمير البنية التحتية الأساسية للحياة:
  • التعليم: تدمير 70% من مباني المدارس وأكثر من 57 مبنى جامعياً بالكامل، مما أدى إلى حرمان 600 ألف طفل و80 ألف طالب جامعي من حقهم في التعليم.
  • الصحة: لم يتبق سوى 17 مستشفى من أصل 36 يعمل بشكل جزئي، بسعة إجمالية لا تتجاوز 1,500 سرير لخدمة مليوني شخص، مع استهداف ممنهج للفرق الطبية وسيارات الإسعاف.
  • الغذاء: أشارت إلى أنه بحلول نوفمبر 2023، لم يكن هناك مخبز واحد يعمل في شمال غزة.
  • تسليح الضروريات الإنسانية: حيث يتم قطع المياه والكهرباء والغذاء والدواء بشكل منهجي، واستخدام التجويع كسلاح حرب مصمم لجعل البقاء على قيد الحياة مستحيلاً.
  • التهجير كتطهير عرقي: ويتم ذلك عبر أوامر إخلاء جماعي متكررة إلى ما يسمى بـ"المناطق الآمنة" التي يتم قصفها لاحقاً، مما خلق نزوحاً كارثياً شمل جميع سكان القطاع تقريباً، مع تسجيل حالات لعائلات نزحت 26 مرة.
  • تدمير البنية الاجتماعية والثقافية: وأوضحت أن الهدف ليس فقط تدمير الأجساد والمباني، بل "الذاكرة والثقافة والمستقبل"، عبر قصف الجامعات والمكتبات والمراكز الثقافية والأرشيفات التاريخية، التي وصفتها بأنها محاولة "لتدمير المعرفة والصمود اللذين يسمحان للناس بالبقاء".
  • الإفلات من العقاب وتطبيع الإبادة: وأكدت أن إسرائيل تتصرف بثقة مطلقة بسبب الحماية الدبلوماسية والعسكرية من حلفاء أقوياء، محذرة من أن "تطبيع هذا الإفلات من العقاب يسمح باستنساخ الإبادة الجماعية في أماكن أخرى من العالم".
  • وفي الجزء الثاني من حديثها، طرحت الدكتورة علي خارطة طريق عملية لمواجهة هذا المشروع، مؤكدة أن الإجابة تكمن في "الضغط، والمزيد من الضغط". ودعت الدول إلى تجاوز "الإدانات الفارغة" والانتقال إلى إجراءات ملموسة تشمل: فرض حظر شامل على الأسلحة، وتعليق اتفاقيات التعاون، ودعم المحاكم الدولية (العدل الدولية والجنائية الدولية)، وفرض عقوبات اقتصادية على الشركات المتواطئة، بالإضافة إلى دعم حملات المقاطعة الأكاديمية والثقافية وتعبئة المجتمع المدني للحفاظ على القضية الفلسطينية على الأجندة العالمية.

    واختتمت بملاحظة جوهرية، قائلة إن الضغط على إسرائيل "ليس اختباراً فلسطينياً فقط، بل هو اختبار لما إذا كان للقانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة وحقوق الإنسان أي معنى على الإطلاق"، مستشهدة بالنجاح التاريخي للضغط الدولي في تفكيك نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا كدليل على إمكانية إحداث التغيير.

     

    من لندن إلى لاهاي: استراتيجية قانونية شاملة ومتعددة الجبهات لمحاصرة الإفلات من العقاب

    من جانبه، قدّم السيد مطهر أحمد، رئيس الشؤون القانونية في المركز الدولي للعدالة من أجل الفلسطينيين (ICJP)، عرضاً تفصيلياً وشاملاً للاستراتيجية القانونية العملية والمتعددة الجبهات التي تتبعها المنظمة. وبدأ باستعراض الجبهة المحلية في المملكة المتحدة، موضحاً أن المركز لم يكتفِ بتقديم شكاوى ضد أربعة وزراء في الحكومة البريطانية بتهمة التواطؤ في جرائم حرب، بل قدم أيضاً شكوى منفصلة ومفصلة حول جريمة التجويع كسلاح حرب، وهي شكوى تم تدعيمها بملف أدلة ضخم يقع في 800 صفحة. وأضاف أن الإجراءات شملت كذلك تقديم شكاوى ضد مسؤولين في الحكومة الإسرائيلية يحملون الجنسية البريطانية بتهم المساعدة والتحريض والتآمر لارتكاب جرائم حرب.

    وأكد أن حجر الزاوية في كل هذه الجهود هو عملية جمع الأدلة المنهجية التي تقوم بها وحدة تحقيق خاصة بالمركز منذ أكتوبر 2023، والتي جمعت شهادات حاسمة من أطباء عملوا في أحد عشر مستشفى مختلفاً في غزة، بالإضافة إلى إفادات من ضحايا فلسطينيين تم إجلاؤهم، مع الحرص على أن تفي جميع الأدلة بالمعايير الصارمة للمحاكم البريطانية والدولية. وكشف أن هذه الأدلة الموثقة كان لها أثر دولي مباشر وحاسم، حيث تم تزويد الفريق القانوني لجنوب إفريقيا بها بالكامل، وشكلت الأساس الوقائعي الذي "تم الاعتماد عليه بشكل كبير" في بناء الحجج القانونية لقضية الإبادة الجماعية أمام محكمة العدل الدولية.

    وانتقل بعد ذلك إلى جبهة ملاحقة داعمي الحرب، مستعرضاً الدعوى القضائية ضد الحكومة البريطانية بشأن صادرات الأسلحة. وأوضح أنه على الرغم من أن الضغط أدى لتعليق جزئي للتراخيص (29 من أصل 350)، إلا أن الحكومة استثنت بشكل حاسم برنامج طائرات F-35 المقاتلة. ورغم أن المحكمة العليا رفضت التدخل في القرار لأسباب تتعلق بكونها "سياسة خارجية وأمن قومي عليا"، شدد السيد أحمد على أن الضغط مستمر بوسائل أخرى، مثل حملات سحب الاستثمارات الناجحة التي استهدفت مؤسسات كبرى مثل كلية ترينيتي كامبريدج، بالإضافة إلى توجيه رسائل تحذير مباشرة لمديري عشرين شركة أسلحة بريطانية من مسؤوليتهم الجنائية المحتملة.

    واختتم عرضه بالحديث عن مشروع "Global 195"، واصفاً إياه بتحالف قانوني عالمي يهدف إلى ضمان عدم وجود أي ملاذ آمن للمتهمين بارتكاب جرائم حرب. وأوضح أن المشروع يهدف إلى توسيع نطاق المساءلة لتشمل ليس فقط القادة السياسيين، بل أي فرد شارك أو سهل في ارتكاب الجرائم، كالجنود، وذلك عبر تفعيل الأنظمة القضائية الوطنية في دول عديدة تمتد من ماليزيا وتركيا إلى كندا والمجر ورومانيا وألبانيا. وأنهى كلمته بالتأكيد على أن رؤية المركز النهائية هي ضمان تقديم جميع المتواطئين في جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، "من أعلى إلى أسفل سلسلة القيادة"، إلى العدالة.

     

    نقاش معمق: سد فجوة المساءلة والانتقال من الإدانة إلى الفعل

    شهدت فترة النقاش تفاعلاً عميقاً حول التحدي الأكبر الذي يواجه العدالة الدولية: "فجوة المساءلة". وتساءل الحضور عن سبب استمرار فشل الآليات الدولية في حماية الضحايا رغم وضوح نصوص القانون الدولي التي تجرّم استخدام التجويع كسلاح حرب.

    أجمع المتحدثون على أن المشكلة لا تكمن في غياب القوانين، بل في الإرادة السياسية لتطبيقها. وتم التأكيد على أن العملية القانونية الدولية بطيئة بطبيعتها، خاصة عند استهداف مسؤولين رفيعي المستوى، مما يجعل "الضغط والمزيد من الضغط" عبر تضافر جهود المنظمات الحقوقية والفرق القانونية أمراً حيوياً، مع ضرورة البدء بجمع الأدلة بشكل فوري ومنهجي.

    ورداً على سؤال حول كيفية الانتقال من "الكلام الكثير إلى الإجراءات العملية"، كانت الدعوات واضحة ومباشرة. شدد الخبراء على أن العقوبات الاقتصادية والأكاديمية أثبتت فعاليتها في إحداث تغييرات سياسية، وتم تقديم مثال قوي حول كيف أن مجرد التلويح بقطع تمويل "ماري كوري" عن الجامعات الإسرائيلية دفع 100 أكاديمي إسرائيلي للضغط على حكومتهم. كما وُجه نداء مباشر للدبلوماسيين الحاضرين للقيام بواجبهم وتفعيل آليات ميثاق الأمم المتحدة مثل قرار "الاتحاد من أجل السلام"، مؤكدين أن على الدول أن "تقوم بعملها" لحماية النظام الدولي.

    واختتمت الندوة بتأكيد جماعي على أن المساءلة يجب ألا تقتصر على المحاكم الدولية، بل يجب أن تكون شاملة، تستهدف الشبكات المالية وشركات الأسلحة التي تدعم هذه الجرائم، وتلاحق الأفراد المتورطين في بلدانهم، لضمان تقديم جميع المتواطئين في جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، من أعلى إلى أسفل سلسلة القيادة، إلى العدالة.

     

    شاهد الندوة من هنا:

    https://youtu.be/_jn-tcZ43jU

     

     

    مزيد من الصور:

     

     

     

    رابط مختصر : https://prc.org.uk/ar/post/5056